الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولم يكن بد أن يتم لأنه حلقة في سلسلة الرواية الكبرى المرسومة، لتصل بيوسف إلى النهاية المرسومة، والتي تمهد لها ظروف حياته، وواقع أسرته، ومجيئه لأبيه على كبرة. وأصغر الأبناء هم أحب الأبناء، وبخاصة حين يكون الوالد في سن الكبر. كما كان الحال مع يوسف وأخيه، وإخوته من أمهات.{إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة}..أي ونحن مجموعة قوية تدفع وتنفع..{إن أبانا لفي ضلال مبين}..إذ يؤثر غلامًا وصبيًا صغيرين على مجموعة الرجال النافعين الدافعين!ثم يغلي الحقد ويدخل الشيطان، فيختل تقديرهم للوقائع، وتتضخم في حسهم أشياء صغيرة، وتهون أحداث ضخام. تهون الفعلة الشنعاء المتمثلة في إزهاق روح. روح غلام بريء لا يملك دفعًا عن نفسه، وهو لهم أخ. وهم أبناء نبي وإن لم يكونوا هم أنبياء يهون هذا. وتضخم في أعينهم حكاية إيثار أبيهم له بالحب. حتى توازي القتل. أكبر جرائم الأرض قاطبة بعد الشرك بالله: {اقتلوا يوسف او اطرحوه ارضًا}..وهما قريب من قريب. فطرحه في أرض نائية مقطوعة مفض في الغالب إلى الموت.. ولماذا؟{يخل لكم وجه أبيكم}..فلا يحجبه يوسف. وهم يريدون قلبه. كأنه حين لا يراه في وجهه يصبح قلبه خاليًا من حبه، ويتوجه بهذا الحب إلى الآخرين! والجريمة؟ الجريمة تتوبون عنها وتصلحون ما أفسدتم بارتكابها: {وتكونوا من بعده قومًا صالحين}!..هكذا ينزغ الشيطان، وهكذا يسول للنفوس عندما تغضب وتفقد زمامها، وتفقد صحة تقديرها للأشياء والأحداث. وهكذا لما غلا في صدورهم الحقد برز الشيطان ليقول لهم: اقتلوا.. والتوبة بعد ذلك تصلح ما فات! وليست التوبة هكذا. إنما تكون التوبة من الخطيئة التي يندفع إليها المرء غافلًا جاهلًا غير ذاكر؛ حتى إذا تذكر ندم، وجاشت نفسه بالتوبة. أما التوبة الجاهزة! التوبة التي تعد سلفًا قبل ارتكاب الجريمة لإزالة معالم الجريمة، فليست بالتوبة، إنما هي تبرير لارتكاب الجريمة يزينه الشيطان!ولكن ضميرًا واحدًا فيهم، يرتعش لهول ما هم مقدمون عليه. فيقترح حلًا يريحهم من يوسف، ويخلي لهم وجه أبيهم، ولكنه لا يقتل يوسف، ولا يلقيه في أرض مهجورة يغلب فيها الهلاك. إنما يلقيه في الجب على طريق القوافل، حيث يرجح أن تعثر عليه إحدى القوافل فتنقذه وتذهب به بعيدًا: {قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين}..ونحس من قوله: {إن كنتم فاعلين}..روح التشكيك والتثبيط. كأنه يشككهم في أنهم مصرون على إيقاع الأذى بيوسف. وهو أسلوب من أساليب التثبيط عن الفعل، واضح فيه عدم الارتياح للتنفيذ. ولكن هذا كان أقل ما يشفي حقدهم؛ ولم يكونوا على استعداد للتراجع فيما اعتزموه.. نفهم هذا من المشهد التالي في السياق..فها هم أولاء عند أبيهم، يراودنه في اصطحاب يوسف معهم منذ الغداة. وها هم أولاء يخادعون أباهم، ويمكرون به وبيوسف. فلنشهد ولنستمع لما يدور: {قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتعْ ويلعبْ وإنا له لحافظون قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذن لخاسرون}..والتعبير يرسم بكلماته وعباراته كل ما بذلوه ليتدسسوا به إلى قلب الوالد المتعلق بولده الصغير الحبيب، الذي يتوسم فيه أن يكون الوارث لبركات أبيه إبراهيم..{يا أبانا}..بهذا اللفظ الموحي المذكر بما بينه وبينهم من آصرة.{مالك لا تأمنا على يوسف}..سؤال فيه عتب وفيه استنكار خفي، وفيه استجاشة لنفي مدلوله من أبيهم، والتسليم لهم بعكسه وهو تسليمهم يوسف. فهو كان يستبقي يوسف معه ولا يرسله مع إخوته إلى المراعي والجهات الخلوية التي يرتادونها لأنه يحبه ويخشى عليه ألا يحتمل الجو والجهد الذي يحتملونه وهم كبار، لا لأنه لا يأمنهم عليه. فمبادرتهم له بأنه لا يأتمنهم على أخيهم وهو أبوهم، مقصود بها استجاشته لنفي هذا الخاطر؛ ومن ثم يفقد إصراره على احتجاز يوسف. فهي مبادرة ماكرة منهم خبيثة!{مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون}..قلوبنا له صافية لا يخالطها سوء وكاد المريب أن يقول خذوني فذكر النصح هنا وهو الصفاء والإخلاص يشي بما كانوا يحاولون إخفاءه من الدغل المريب..{أرسله معنا غدًا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون}..زيادة في التوكيد، وتصويرًا لما ينتظر يوسف من النشاط والمسرة والرياضة، مما ينشط والده لإرساله معهم كما يريدون.وردًا على العتاب الاستنكاري الأول جعل يعقوب ينفي بطريق غير مباشر أنه لا يأمنهم عليه، ويعلل احتجازه معه بقلة صبره على فراقه وخوفه عليه من الذئاب: {قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون}..{إني ليحزنني أن تذهبوا به}..إنني لا أطيق فراقه.. ولابد أن هذه هاجت أحقادهم وضاعفتها. أن يبلغ حبه له درجة الحزن لفراقه ولو لبعض يوم، وهو ذاهب كما قالوا له للنشاط والمسرة.{وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون}..ولابد أنهم وجدوا فيها عذرًا كانوا يبحثون عنه، أو كان الحقد الهائج أعماهم فلم يفكروا ماذا يقولون لأبيهم بعد فعلتهم المنكرة، حتى لقنهم أبوهم هذا الجواب!واختاروا أسلوبًا من الأساليب المؤثرة لنفي هذا الخاطر عنه: {قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذن لخاسرون}..لئن غلبنا الذئب عليه ونحن جماعة قوية هكذا فلا خير فينا لأنفسنا وإننا لخاسرون كل شيء، فلا نصلح لشيء أبدًا!وهكذا استسلم الوالد الحريص لهذا التوكيد ولذلك الإحراج.. ليتحقق قدر الله وتتم القصة كا تقتضي مشيئته!والآن لقد ذهبوا به، وها هم أولاء ينفذون المؤامرة النكراء. والله سبحانه يلقي في روع الغلام أنها محنة وتنتهي، وأنه سيعيش وسيذكّر إخوته بموقفهم هذا منه وهم لا يشعرون أنه هو: {فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون}..فقد استقر أمرهم جميعًا على أن يجعلوه في غيابة الجب، حيث يغيب فيه عنهم. وفي لحظة الضيق والشدة التي كان يواجه فيها هذا الفزع، والموت منه قريب، ولا منقذ له ولا مغيث. وهو وحده صغير وهم عشرة أشداء. في هذه اللحظة اليائسة يلقي الله في روعة أنه ناج، وأنه سيعيش حتى يواجه إخوته بهذا الموقف الشنيع، وهم لا يشعرون بأن الذي يواجههم هو يوسف الذي تركوه في غيابة الجب وهو صغير.وندع يوسف في محنته في غيابة الجب، يؤنسه ولا شك ما ألقى الله في روعه ويطمئنه، حتى يأذن الله بالفرج. ندعه لنشهد إخوته بعد الجريمة يواجهون الوالد المفجوع: {وجاءوا أباهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرًا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون}..لقد ألهاهم الحقد الفائر عن سبك الكذبة، فلو كانوا أهدأ أعصابًا ما فعلوها منذ المرة الأولى التي يأذن لهم فيها يعقوب باصطحاب يوسف معهم! ولكنهم كانوا معجلين لا يصبرون، يخشون ألا تواتيهم الفرصة مرة أخرى. كذلك كان التقاطهم لحكاية الذئب المكشوفة دليلًا على التسرع، وقد كان أبوهم يحذرهم منها أمس، وهم ينفونها، ويكادون يتهكمون بها. فلم يكن من المستساغ أن يذهبوا في الصباح ليتركوا للذئب الذي حذرهم أبوهم منه أمس! وبمثل هذا التسرع جاءوا على قميصه بدم كذب لطخوه به في غير إتقان، فكان ظاهر الكذب حتى ليوصف بأنه كذب..فعلوا هذا.{وجاءوا أباهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب}..ويحسون أنها مكشوفة، ويكاد المريب أن يقول خذوني، فيقولون: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين}..أي وما أنت بمطمئن لما نقوله، ولو كان هو الصدق، لأنك تشك فينا ولا تطمئن لما نقول.وأدرك يعقوب من دلائل الحال، ومن نداء قلبه، أن يوسف لم يأكله الذئب، وأنهم دبروا له مكيدة ما. وأنهم يلفقون له قصة لم تقع، ويصفون له حالًا لم تكن. فواجههم بأن نفوسهم قد حسنت لهم أمرًا منكرًا وذللته ويسرت لهم ارتكابه؛ وأنه سيصبر متحملًا متجملًا لا يجزع ولا يفزع ولا يشكو، مستعينًا بالله على ما يلفقونه من حيل وأكاذيب: {قال بل سولت لكم أنفسكم أمرًا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون}.ثم لنعد سريعًا إلى يوسف في الجب، لنرى المشهد الأخير في هذه الحلقة الأولى من حلقات القصة: {وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين}..لقد كان الجب على طريق القوافل، التي تبحث عن الماء في مظانه، في الآبار وفي مثل هذا الجب الذي ينزل فيه ماء المطر ويبقى فترة، ويكون في بعض الأحيان جافًا كذلك: {وجاءت سيارة}..أي قافلة سميت سيارة من السير الطويل كالكشافة والجوالة والقناصة...{فأرسلوا واردهم}.. أي من يرد لهم الماء ويكون خبيرًا بمواقعه.. {فأدلى دلوه}.. لينظر الماء أو ليملأ الدلو ويحذف السياق حركة يوسف في التعلق بالدلو احتفاظًا بالمفاجأة القصصية للقارئ والسامع: {قال يا بشرى هذا غلام}..ومرة أخرى يحذف السياق كل ما حدث بعد هذا وما قيل، وحال يوسف، وكيف ابتهج للنجاة، ليتحدث عن مصيره مع القافلة: {وأسروه بضاعة}..أي اعتبروه بضاعة سرية وعزموا على بيعه رقيقًا. ولما لم يكن رقيقًا فقد أسروه ليخفوه عن الأنظار. ثم باعوه بثمن قليل: {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة}.. وكانوا يتعاملون في القليل من الدراهم بالعد، وفي الكثير منها بالوزن..{وكانوا فيه من الزاهدين}..لأنهم يريدون التخلص من تهمة استرقاقه وبيعه..وكانت هذه نهاية المحنة الأولى في حياة النبي الكريم. اهـ.
|